أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبدالرحيم الكريمى - التسوية السياسية مع إسرائيل بين الممكن .. والمستحيل















المزيد.....



التسوية السياسية مع إسرائيل بين الممكن .. والمستحيل


عبدالرحيم الكريمى

الحوار المتمدن-العدد: 280 - 2002 / 10 / 18 - 05:09
المحور: القضية الفلسطينية
    


      الجبهة الوطنية الديموقراطية

لمقاومة المشروع الأمريكي الصهيوني

      مركز الدراسات الاستراتيجية.

             الكراسة الأولى:

 

التسوية السياسية مع إسرائيل

بين الممكن .. والمستحيل

د. عبد الرحيم الكريمى

ـــــــــــــــ

مدخل:

 

ثمة حاجة أراها ماسة وملحة في هذه الآونة من الصراع مع إسرائيل، لتناول ودراسة موضوع التسوية، خاصة ونحن مقبلون على مرحلة جديدة من الصراع، بعد انفجار الانتفاضة وتحولها إلى الكفاح المسلح، وهى مرحلة يمكن أن نطلق عليها بحق مفترق طرق، ويبدو في التحليل النهائي لهذه المرحلة المقبلة من الصراع، أن الهدف المسكوت علية ليس الوصول إلى تسوية نهائية أو مؤقتة/دائمة للصراع، وإنما الغرض منها الأساسي هو إسكات فعل الانتفاضة، لأن تكف أن تكون عامل ضغط  عصبي وسياسي على كل أطراف الصراع سواء إسرائيلية أو عربية أو أمريكية .. ثمة حاجة ضرورية في هذه الظروف إلى تحليل الموقف الآني تحليلا موضوعيا بعيدا عن الهوى والانفعال، وذلك بمناقشة هذا الشعار الذي يطرح نفسه على الساحة السياسية في شكل هدف تنفيذي سريع يجب تحقيقه بكل السبل وهو "إنقاذ عملية السلام" ، هذا الشعار الذي يكمن فيه أهم سؤال ملح على العقل المصري السياسي ألا وهو: هل التسوية مع إسرائيل ممكنة أم مستحيلة ؟؟

 

قد يقول البعض أن السياسة هي فن الممكن، ولكننا نقول على العكس أن السياسة هي فن المستحيل أو الصعب .. وأن فن الممكن هو في كل أحواله وأحسنها فن انتهازي براجماتى ميكيافلى الأصول، وأن فن المستحيل أو الصعب هو في أغلب الأحيان فن نضال الشعوب، فن التضحية والاستشهاد والهدف التاريخي الغير منقوص، والحقوق الكاملة والحلول الثورية، فهو المرتبط بحقوق الشعوب وآمالها وأهدافها العليا الوطنية، والتي تتطلب المزيد من الصراع والتضحية والإصرار على تغيير الواقع الحاضر لصالح المستقبل، لتحقيق الحقوق التاريخية للشعوب، أن المستحيل هو الممكن الوحيد المستقر المبنى أساسا على التوازن التاريخي، الذي تنبع مصداقيته من عمق التاريخ في الأرض الوطن والحرية والتقدم في وجدان الشعوب من جانب، وتطابقه مع حتمية حركة التاريخ ومصداقيتها من جانب آخر، أن هذا الممكن المستقر التاريخي ليس الممكن المبنى على توازنات القوى المتغيرة دوما، والتي تعيد صياغة الواقع الحاضر بناء على توازنها وفرض قوانين الأمر الواقع والتسلط بالقوة الجبرية.. وهو ما يمكن سحبة على سؤالنا الملح في هذه الدراسة، هل التسوية مع إسرائيل ممكنة أم مستحيلة ؟؟

 

وفى ظرفنا الراهن، تبلورت بعد انتصار المقاومة اللبنانية وتحرير جنوبها وانتفاضة الشعب الفلسطيني واستمرارها حتى اليوم، سياستان، والجدير بالذكر أن هاتين السياستين لم يتبلورا في الساحة السياسية المصرية بشكل انفعالي، أو سريع، بل على العكس فقد تبلورتا، وهما مازالتا يتبلوران وينضجان بشكل تراكمي هادئ وعميق في وعى الشعب المصري، سواء كان معادلا للرأي الرسمي لمؤسسة الرئاسة والحكومة، أو مخالفا له، وهذا التبلور هو ما يدفع الواقع السياسي المصري للحركة والتفاعل، وهو ما يحوله من واقع متميع إلى واقع متحرك متبلور ومتميز، من واقع غير محدد الرأي والاتجاه إلى واقع محدد الرأي وذو اتجاه، أن هذا التفعيل والتفاعل المستمر بين الأحداث ووعى الجماهير المتنامي والمحدد والمكون للرأي العام في الشارع المصري، هو ما يخشاه أي حاكم، إذ أن هذا التمايز والتبلور سيصب حتما في نهاية الأمر في قالب حركي يصعب تغافله أو تهميشه أو حتى قهره ..

 

سياستان:

سياستان، إحداها ينتمي إلى الممكن والمتاح بناء على توازنات القوة الحالية، وهى سياسة تعتمد النظرة الوضعية البراجماتية في صناعة قراراتها ومواقفها، سقفها السياسي قرارات الأمم المتحدة ابتداء من قرارات التقسيم وقرارات  242، 338، وكامب ديفيد، وأوسلو ومؤتمر مدريد، والتي محصلتها العامة السياسية العودة إلى حدود ما قبل حرب 1967 كحد أقصى في أجندتها السياسية، وهذه السياسة تعتمد أساسا إستراتيجية السلام والمفاوضات لإيجاد تسوية متوازنة بين سقفها السياسي والممكن والمتاح والعملي، وهى سياسة يشجع عدونا على استمرارها وتحقيقها، فهذه السياسة هي الأكثر ملائمة ومواءمة لتحقيق استراتيجياته في المنطقة، والتي ترتكز على إخلال ميزان القوة العسكري في الأساس ومن ثم السياسي في ظل حماية ديبلوماسية أمريكية ترسم سيناريوهات المنطقة وتنفذها لصالحها في المقام الأول ثم لصالح إسرائيل في المقام الثاني، وقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تعمل وتلعب هذا الدور المخل بموازين القوى لصالح إسرائيل، وذلك منذ أن تأسس خط التسوية كسياسة رسمية لمؤسسات الحكم العربية المختلفة، والذي بدأ بقرار التقسيم سنة 48 ،وتبلور منذ هزيمة 67 وقبول قرار 242 وكامب ديفيد، والاعتراف السياسي بالكيان الإسرائيلي في المنطقة .. وفى إطار هذه الخطة والسياسة الرسمية يجيء سؤالنا الملح هل التسوية في إطار السياسة البراجماتية المتوازنة التي سقفها السياسي حدودنا الجغرافية والسياسية قبل حرب 1967 في ظل ميزان القوة المختل مع إسرائيل، هل هذه التسوية ممكنة؟؟

 

أن نظرة سريعة وبغير جهد يذكر، تمكننا من أن نرسم خط بياني منحدر لمطالبنا وحقوقنا في إطار خطة  التسوية السياسية مع إسرائيل منذ قرار التقسيم في 1948 ، والذي تحاول الديبلوماسية الرسمية الوضعية البراجماتية التوصل إليها في ظل هذا الخلل في ميزان القوى، فمنذ ذلك التاريخ الذي قبلت فيه الدول العربية قرار التقسيم وحتى أحدث تقرير رسمي يتعامل مع قضية صراعنا العربي مع إسرائيل وهو تقرير "ميتشل"، وخطة "تنيت" رئيس استخبارات العدو الأمريكي،  منذ ذلك التاريخ والسقف السياسي العربي عند كل نقطة احتكاك ينخفض في كل جولة مفاوضات، حتى وصل اليوم وبعد سنة من الانتفاضة إلى التفاوض حول حدود ما قبل الانتفاضة، وهى تمثل سقف منخفض عن حدود ما قبل حرب 67 التي كانت هدف حرب اكتوبر  1973 السياسى، والذى استهدفته خطط التسوية العربية في أوسلو، ورغم أن حدود ما قبل الانتفاضة عبارة عن بضعه مئات من الأمتار المربعة، فقد استباحتها القوات الإسرائيلية وهى تتوغل فيها الآن دون أي رادع في مواجهاتها من السلطة الفلسطينية، وأصبحنا في نهاية الأمر نموت قتلا وتشريدا وتجريفا وهدما وتهجيرا من أجل موضع قدم على أرضنا التاريخية نعيش فيه أحرارا غير مخترقين، بسبب تلك السياسة الخرقاء المسماة بالممكن.  

 

وهذه الدراسة ما هي إلا قراءه متأنية لخصائص الواقع الآني لقضية الصراع بيننا وبين إسرائيل من بعد أوسلو، هي محاولة لدراسة إمكانية تحقيق تسوية متوازنة مع إسرائيل، استنادا إلى قرار 242 و 338 ،  ومرة أخرى يطل سؤالنا الملح، ولكن هذه المرة بشكل تطبيقي محدد، فيصبح السؤال هل يمكن لخطة تسوية أوسلو أن تمر؟؟ هل يمكن أن تتحقق في ظل توازنات القوى الحالية على ارض الواقع، خاصة بعد أن أسقطت هذه الخطة، خطة تسوية أوسلو، حمائم إسرائيل بين قتيل وسقوط انتخابي، وأتت بأقصى ما في الخريطة السياسية الإسرائيلية من تطرف يميني ديني وعنصري متعصب .. سأبدأ بالموقف الإسرائيلي، وانتهى بالحالة العربية، علما بأني سأشير في بعض الأحيان إلى تأثير كل منهما في الآخر حينما يصبح التدخل والتعليق هاما لإيضاح نتائج محددة  

 

الموقف الإسرائيلي :    

 لقد تلقت إسرائيل نتائج أوسلو بالرفض، تلك هي السمة الأساسية الحاكمة لكل التصرفات والسياسات الإسرائيلية التي تعبر عن هذا الرفض بأشكال وتكتيكات مختلفة، لقد تفاعلت إسرائيل بقواها السياسية المختلفة مع نتائج أوسلو ومؤتمر مدريد وفقا لطبيعة هذا الكيان ودوره الأساسي في المنطقة، فقد امتص الكيان الإسرائيلي هذه النتائج على ثلاث مراحل واضحة للعيان، بدت في ثلاث مسارات حكمت الخط السياسي الإسرائيلي في تعامله العملي والفعلي مع هذه النتائج..

 

بدأت بعدم الالتزام بمقررات التسوية التي تم الاتفاق عليها في أوسلو في المرحلة التي اتفق على تسميتها بالمرحلة الانتقالية (نتنياهو).. أما المسار الثاني فقد اتضح في سياسة الدمج بين ما تبقى من اتفاقات لم تنفذ في المرحلة الانتقالية إلى ترتيبات الوضع النهائي (باراك).. أما المسار الثالث وهو ما ينفذه شارون الآن بكل دقة، وهو تغيير الوضع الجغرافي/السياسي الفعلي على الأرض بالقوة العسكرية، ورفض قرارات أوسلو وفق خطة سياسية، هي في كل الأحوال الخطة الوحيدة السياسية التي يمكن أن توافق عليها إسرائيل الآن خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر وانتصار سياسة اليمين الرجعى السلفي العسكري الأمريكي، الذي يرى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أقلية داخل الكيان الإسرائيلي حتى إن أخذت هذه  الرؤية شكل دولة ممسوخة فاقدة السيادة ، لا يسمح لها إلا بالدور الشرطي المحافظ على أمن إسرائيل،    وفرض هذا الأمر الواقع باستخدام القوة المسلحة في ابشع صورها.

 

كان على أثر هذه المسارات الثلاث أدخل اتفاق أوسلو الكيان الصهيوني في تناقض واضح بين كونه مفرزة متقدمة عسكرية تحافظ على المصالح الأمريكية/الصهيونية في المنطقة بالدرجة الاولى، وكونه دوله تحترم المواثيق الدولية وتعمل من خلالها كما تخيل الساسة الإسرائيليين الذين وقعوا  اتفاقات أوسلو، ونسوا أو تناسوا دورهم الأساسي، وقد حكم هذه الأزمات بشكل مباشر وفجرها في قلب الكيان الإسرائيلي هذا النسق الزمني لتنفيذ نتائج أوسلو، واقصد بالنسق الزمني، هذا البرنامج الزمني (خمس سنوات تنقسم إلى مرحلتين الأولى انتقالية، والثانية أطلق عليها ترتيبات الوضع النهائي).. وهو نسق مال إيجابيا لصالح الطرف الفلسطيني، إذ يبدو أن هذا النسق كان ذو  إيقاع أسرع من قدرة الكيان الإسرائيلي على استيعاب وهضم نتائج أوسلو، رغم فقرها في الحقوق المعطاة للطرف الفلسطيني، فكما أسلفنا قد انقسمت نتائج أوسلو إلى مرحلتين، وكان على إسرائيل فيهما تنفيذ اتفاقات محددة تنسحب فيها قواتها إلى نقاط بعينها في مواعيد بعينها.. وهى نتائج استلزم الاتفاق على تنفيذها (الذي لم يتم حتى الآن) عقد ثلاث قمم (القاهرة، طابا، واى بلانتيشن) .

 

كانت هذه القمم الثلاث تعبيرا عن احتدام أزمة الكيان الإسرائيلي في إمكانية استيعاب وابتلاع وهضم نتائج أوسلو، التي تلزمها من الاقتراب من الساعات الأخيرة، التي تضعها أمام خيارها التاريخي كونها مفرزة عسكرية متقدمة ورجل شرطة في مخفر أمامي في المنطقة للاحتكار الأمريكي الصهيوني، أو تكون كما ظن  بعض قادتها دولة معترف بها من جيرانها ومن المجتمع الدولي تحترم المواثيق والتعهدات وتتصرف كدولة وليس كرجل شرطة، وما يتطلبه ذلك من تحديد لموقفها النهائي من مشروعها الاستيطاني في المنطقة، وذلك في المرحلة الثانية للخمس سنوات التي منحتها أوسلو لإسرائيل، حيث يحين التفاوض على الترتيبات النهائية للصراع.. ونحن في الحقيقة قد ساد تفكيرنا الشك في إمكانية تحقيق اتفاقات أوسلو، وهو نفس الشك الذي ينتابنا حين يصل طرفي الصراع إلى أي اتفاق، وقد تسائلنا كيف تتحقق هذه النتائج في الواقع وهذه التركيبة السياسية للكيان الإسرائيلي بقواها السياسية المعبرة عنها، تحكم هذا الكيان، فالخريطة السياسية للكيان الصهيوني  بالإضافة إلى استراتيجية الاحتكار الإمبريالي الأمريكي في المنطقة، لا يمكن أن يكونا بأي حال من الأحوال البيئة المناسبة لإمرار أي اتفاق متوازن مع حقوق شعوب المنطقة، فهذه البيئة السياسية ليست في الحقيقة العلمية البيئة المناسبة والملائمة لتقبل أفكار انتقالية تكرس ولو حتى الجزء اليسير من الحقوق الفلسطينية، فما بالك بالترتيبات النهائية والتسوية النهائية ..

 

أن إسرائيل كيان مركب ومعقد التكوين، لن يؤهله هذا التركيب العسكري/السياسي/الاستيطاني/العنصري/الإمبريالي/الصهيوني، من تحديد أهدافه وخطته النهائية في المنطقة، وهو بنفس المنطق لا يمكن أن يقبل الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية الذي وجد نفسه أمامها ومطالبا بتنفيذها فجأة (بسبب التنازلات المروعة في الحقوق التاريخية التي قبلها العرب في أوسلو).. فلم يكن مثل هذا الكيان مستعدا أبدا لهذه (الزنقة)، أو الطبخة السريعة زمنيا، مما اضطره إلى الكشف عن جزء أساسي من استراتيجيته العليا، حين كشف موقفة من قضايا القدس، والعودة، والمياه، والمستوطنات، والدولة، دون اتفاق مسبق على حدود هذا الكشف من قبل الجوقة العسكرية/السياسية في الداخل الإسرائيلي، والحقيقة التي يجب أن ندركها أن في الكشف عن مواقف إسرائيل من مثل هذه القضايا الجوهرية في الصراع، هو ما دفعها للكشف بشكل علني وصريح عن جوهرها العنصري ودورها الإمبريالي في المنطقة، وهو الأهم، ولعل تصريح رابين الشهير الذي اتخذه تكتيكا لسياسته وتبناه من جاء بعدة، جاء تعبيرا عن هذه الزنقة فقال: "انه لا توجد مواعيد مقدسة"، وهو التكتيك الذي استخدمه قادة إسرائيل للابتعاد بقدر الإمكان عن إعلان الموقف النهائي بشكل مباشر وعلني لأطماع المشروع الإمبريالي الإسرائيلي، وذلك عن طريق الإطالة من وقت التفاوض، والهروب من تنفيذ الاتفاقات وتجزئتها وتأويلها. 

 

فمن العبث أن تبنى المواقف السياسة على أوهام ولي الحقائق، والتعامل معها على أنها حقائق موضوعية، فالموقف السياسي الذي يبنى على الأوهام لا يحصد غير التخبط والتردد ومن ثم التردي والهزيمة، وحقيقة الأمر للمتفحص لخصائص صراعنا مع إسرائيل، إن الوهم قد تسلط على عقل كل من الساسة العرب والإسرائيليين، ولكن أوهام هنا غير أوهام هناك، أوهام ساستنا غير أوهام ساستهم، ولذا تخبط كل منهما في إدارة الصراع كل بقدر، وأخذ كل منهما مواقف مبنية على المغالطة في فهم العوامل المؤثرة والحاكمة للقوانين التاريخية الخاصة لهذا الصراع.. فبينما تنظر إسرائيل للعرب حكومات وشعوب كرقم يساوى في معظم تقديراتها صفرا أو اكثر قليلا، وهو وهم كبير، ينظر العرب لإسرائيل على أنها العدو الرئيسي دون الولايات المتحدة الأمريكية، التي ينظرون إليها كطرف محايد أو يمكن تحييده، وهو وهم أكبر، وخطورة الموقفين انهما يمسان الاستراتيجية بعمق عند كل من الطرفين، إن هاتين النظرتين الواهمتين انتجا مفاوضات واتفاقات وتوقعات وتوقيعات غير ممكنة التحقيق، بدءا من قرارات التقسيم في 1948 حتى تقرير "ميتشل"، وعند طرحها كحلول للصراع تفشل، فلم تستطع طوال عمر الصراع أن تصل إلى حل عملي موضوعي يأخذ في اعتباره الحقائق التاريخية للصراع، وكانت تصطدم دائما بما يجافى تحقيقها في الواقع..  

 

وإذا مددنا هذا الخيط على استقامته، فإننا يمكن أن نفهم أو نحلل الموقف الإسرائيلي من نتائج أوسلو وغزة أريحا، وهو الموقف الذي قدرة العرب تقديرا خاطئا، تماما كما قدرته القوى الليبرالية الإسرائيلية تقديرا خاطئا، في إطار الوهم المسيطر على كل منهما، حينما ظن كل من العرب والإسرائيليين اللذين وقعوا هذا الاتفاق، أن مثل هذا الاتفاق الذي بنى على مثل تلك الأوهام السابق ذكرها يمكن أن يتحقق، ولكن بمجرد أن احتكت مثل هذه الاتفاقات بحقائق الواقع رفضها ولفظها، وكأنها جسم غريب لا تتفق كيميائياتة مع كيمياء الجسم نفسه أو مع القوانين التاريخية للصراع، فرغم كل أنواع الأدوية الغالية الثمن، التي ظل كل من الطرفين حقنها للواقع وقوانينه التاريخية للتقليل من مقاومتها ومن ثم تقبلها، كانت عند ساعة الحقيقة لا تصح غير قوانين الصراع الحقيقية، التي تكون وحدها القادرة على التعامل مع الواقع مهما كان مذاقها مرا كطعم العلقم ..

 

فمثل هذه التركيبة العسكرية السياسية الصهيونية بفكرها المؤسس لكيانها، لا يمكن أن تكون إلا عدوانية، فهي مشروع يهدف إلى هجرة يهود العالم إلى فلسطين وتحويلهم إلى آلة حرب في يد الصهيونية العالمية الأمريكية تخدم في الأساس مصالحها في منطقتنا الغنية بسبل القوة للإمبريالية الجديدة، وتعتمد لتحقيق مشروعها استراتيجية الاستيطان المسلح في الداخل وعلى قوة دعايتها في الخارج كعنصر أساسي من عناصر قوتها ، ومثل هذا المشروع الصهيوني الإمبريالي المسمى إسرائيل، لا يمكن تخيله أو اعتباره شخصية قانونية اعتبارية تلتزم بالقوانين الدولية أو حتى الإنسانية، ومن ثم عدم القدرة الموضوعية لهذا الكيان الاعتراف  بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني سواء في حدها الأدنى أو الأقصى، فانه كيان مستعار من الزمن القديم الأسطوري ومستدعى من قبل الإمبريالية العالمية لتحقيق مصالحها في المنطقة، وعلى من يريد فعلا السلام مع هذا الكيان علية فقط بالتسليم الكامل الغير مشروط بتلك المصالح الإمبريالية في المنطقة، والدفاع عنها والاعتراف بمشروعها الإسرائيلي، فانه الممكن الوحيد ولكنة المستحيل في بحر الرفض الجامح لهذا المشروع عند شعوب المنطقة ..    

    

وما يجب أن نشير إليه كنقطة جوهرية في التحليل، أن إسرائيل رغم هزال ما حصل علية المفاوض العربي من حقوقه التاريخية في أوسلو، إلا أن الكيان الصهيوني قد رفض الاتفاقات التي وقع عليها "رابين"، لأنها ضد طبيعة دور هذا الكيان الأساسي في المنطقة، رغم اعتراف العرب الرسميين به كدولة، وفى لقطة حاسمة موحية رفض الجيش الإسرائيلي هذه الاتفاقات منذ البداية، بينما قبلتها القوى الجديدة المسماة بالليبرالية الإسرائيلية التي توهمت أنها يمكن أن تتصرف كدولة، وبتحليل تداعيات هذه النتيجة وتحديد تأثيراتها في إسرائيل، يمكننا رصد التوجه السياسي للمظاهرات الصاخبة في إسرائيل والتي اندلعت عقب انفجار العبوة الناسفة الناجحة مؤخرا في تل أبيب والتي نالت من 21 إسرائيليا واكثر من مائة مصاب، والتي نادت بمحاكمة مهندسي أوسلو والموافقون على نتائجها والداعون لها والسلام مع الفلسطينيين، وكذا المظاهرات التي تندلع يوميا من مستوطني المستعمرات في إسرائيل أمام الكنيست ومقر شارون، والتي تطالبه بخوض حربا فاصلة وشاملة ضد الشعب الفلسطيني،  أن هذه المظاهرات والتي تدفع الحكومة الصهيونية لاتخاذ مواقف اكثر تطرفا وعنفا مما هي علية الآن لدليل دراماتيكى على حقيقة واضحة لكل عين فاحصة ودارسة، وهى أن انتصار الأيديولوجية العسكرية العنصرية للكيان الصهيوني واستيلائها على السلطة، وهى الأيديولوجية  المؤمنة بأنها مفرزة متقدمة للاحتكار الأمريكي/الصهيوني في المنطقة فقط لا غير، لا يمكن أن يوحي لأي محلل أو دارس أنها منظومة وأفكار يمكن من قريب أو بعيد أن تتعامل مع فكرة السلام العادل والمتوازن المصالح والحل النهائي للصراع، خاصة في ظل هذا الخلل في ميزان القوة في المنطقة والذي يميل كثيرا إلى جانب العدو..

 

وهى المنظومة والأفكار التي دفعت باراك إلى اعتماد استراتيجية إحباطية مضادة لنتائج واتفاقات أوسلو، دمج فيها القضايا العالقة من المرحلة الانتقالية والتي رأى فيها وعاملها وكأنها رهائن لا يفرج عنها إلا في إطار شامل ونهائي تقدم فيه إسرائيل الحد الأدنى من التنازلات في مقابل موافقة السلطة الفلسطينية على تقديم الحد الأقصى من التنازلات، أي شراء المعروض دون اعتراض، والتوقيع على إسقاط المطالب التاريخية للشعب الفلسطيني بخصوص الأرض والعودة ومن ثم إنهاء الصراع، وكأن باراك أو شارون أو عرفات أو غيرهم لا يدرى أن القبول بمصادرة الصراع لا يعنى إلا عند واهم انه ينهيه، لان هذا الصراع سيبقى قائما من الوجهة الموضوعية طالما بقت أسبابه الحقيقية التاريخية مهما طمست بفعل فاعل .                 

 

ومن المؤشرات التي تدل على سؤ التقدير واعتبار العرب صفر سالب في دفاتر الحسابات الأمريكية الإسرائيلية، سؤ تقديرهم وعدم قدرتهم تخيل رد فعل الجيش المصري في حرب 73 حتى على المستوى السياسي والمخابراتي بعد أن اعتبرته هذه الدوائر الإدراكية للكيان الإسرائيلي والصهيونية الامريكية جثة هامدة لا تقوى على الحركة، وهو أيضا ما حدث عندما أخفقت قرون الاستشعار الإسرائيلية مرة أخرى في رصد أي تحولات سياسية جديدة في الأراضي المحتلة التي أدت إلى انتفاضة فبراير 1988 ، وهى نفس آلية الإدراك الإسرائيلية العاجزة والقاصرة على فهم قوانين الصراع مع العرب والمقاومة الفلسطينية، هي نفسها على مستواها السياسي والاستخباري التي عجزت عن التنبؤ بالانتفاضة التي انطلقت منذ اكثر من عشرة اشهر، وهى نفسها التي لم تدرك أن المائة يوم في خطة شارون ليست كافية، ولن يكون مثلها عشر مرات كافى، لدحض الانتفاضة وإسكاتها..

 

ومن ناحية أخرى.. ومن جانب آخر هي نفسها آلية الإدراك العربية التي لم تتنبأ بالانتفاضة وطبيعتها التي وصلت إليها، كما لم تتوقع  مدى استمرارها وتطورها السياسي والعسكري الذي وصلت إليه الآن، وهى نفسها التي لم تقدر حق تقدير هذا العمق من التأثير التراكمي للانتفاضة في الساحة السياسية العربية وبالتحديد في بعدها الشعبي الآني والمستقبلي، والتي لم تعد نفسها بأي حال من الأحوال كما كانت قبل الانتفاضة .. ومازالت مسرحية سؤ التقدير السياسي وبالتالي تخبط المواقف التكتيكية والاستراتيجية في كل من معسكري الصراع سارية وواضحة، وليس أدل على ذلك من اعتبار حرب 73 آخر الحروب، وان الخيار الإستراتيجي للعرب هو السلام والتسوية السياسية للصراع، وهو وهم أثبتت أحداث كل يوم عدم صحته، تماما كما تثبت نفس الأحداث أن العدو قد عجز وهو عاجز تماما علي فهم القوانين الحاكمة لحركة التحرر الوطني العربية، التي لم ولن تلقى لواء مقاومة العدو الرئيسي الإمبريالية الأمريكية، والعدو الإسرائيلي المباشر، مهما طال الزمن، طالما بقى الاستعمار بشكله القديم والحديث جاثم على صدرها.    

 

مولد الانتفاضة الثانية ودورها السياسي:

من الثابت لكل دارس للموقف بعد ثمان سنوات عجاف من مفاوضات السلام والتسوية السياسية، إن الكيان الصهيوني لم يكن ملتزما بما توصل إليه الموقعون من اتفاقات في أوسلو، فكل الحكومات الإسرائيلية التالية لأوسلو من رابين إلى بيريز ونتنياهو وباراك إلى شارون، لا تنم سياساتها إلا على عدم التزامها بما تم الاتفاق علية ومحاولة التهرب من تحقيقها، وهو ما استدعى أن تدخل المنطقة في دوامة من المفاوضات والاقتراحات المعدلة والمجزئة والمؤجلة في محاولة لدفع الدم لاتفاقات أوسلو، مرة في القاهرة وأخرى في شرم الشيخ وثالثة في واشنطن ورابعة في واى ريفر وخامسة في طابا ثم واشنطن وكامب ديفيد، وفى كل مره محاولة، كان العرب يدفعون من حقوقهم الكثير، وإن دلت كل هذه المحادثات والمداورات على شئ، فإنما تدل على عمق الأزمة  في الداخل الإسرائيلي الرافض لهذه الاتفاقات.

 

وهو ما يثبت خطأ هذه الاتفاقات وعدم مطابقتها للدور المرسوم للكيان الصهيوني كمفرزة أمامية للاحتكار الأمريكي الصهيوني في المنطقة، لأنها بنيت على وهم فكرة التصرف كدولة وكيان قانوني، فكان ذلك ضد كينونتها وقفزا على ثوابت دورها الشرطي العدواني في المنطقة، الذي ينفى بطبيعة الحال أي دور سياسي لهذا الكيان.     

 

ومن هنا يبرز الدور الرئيسي للانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكذا آثارها في الداخل الإسرائيلي من جانب والعربي من جانب آخر، ففى رأينا ان الدور الرئيسي الفاعل للانتفاضة والمقاومة الاستشهادية، أنها وضعت إسرائيل أمام حقيقتها الشرطية ونفت أمام العالم كونها دولة، فإزاء هذا الرفض الإسرائيلي لاتفاقات أوسلو انتفض الشعب الفلسطيني للمرة الثانية معلنا لكل أطراف الصراع، أن تسوية لا تلبى مطالبة في أرض الوطن، وحقه في العودة والمياه، والدولة المستقلة وعاصمتها القدس، لن تمر.

 

لقد أخرجت الانتفاضة الباسلة باراك وخطته الأمنية من التاريخ، أخرجته وبقيت هي فعالة نشطة وخلاقة، وأسقطت خطة شارون التي أطلق عليها خطة المائة يوم والتي وعد بعدها المواطن الناخب الإسرائيلي بالأمن والأمان، وها هي المائة يوم قد انقضت فوضعت شارون وخطته في مأزق تاريخي، لا مخرج له غير المزيد من الجرائم والعنف في حق الشعب الفلسطيني الذي عرف كيف يوجعه بالعمل الفدائي والاستشهادى في الداخل الإسرائيلي، أن خطة شارون هدفت وتهدف إلى إعادة احتلال المناطق التي أخضعتها اتفاقات أوسلو للسلطة الفسطينية، وزرع المستوطنات الإسرائيلية طولا وعرضا في الضفة وغزة لتكون حجة الدفاع عنها ذريعة  لوجود الجيش الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية وتقطيع أوصالها، لوأد أوسلو وإعلان شهادة وفاتها، وفرض أمر واقع جديد يؤهل لاتفاق أمنى أدنى من أوسلو. 

 

أن أهمية دور الانتفاضة الثانية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الصراع، إنما يتشكل في عمق الأزمة التي يمر بها الكيان الصهيوني والتي تزلزل وجوده نفسه، والتي تتمثل بكل تحديد في إجباره على تعيين ذلك الحد الأقصى من التنازلات التي يمكن أن يتنازل عنها هذا الكيان العنصري للفلسطينيين، في إطار تسوية عامة للصراع، فهذا التحديد لحدود الحد الأقصى الممكن التنازل عنه للفلسطينيين، هو في حقيقة الأمر سقوطا لورقة التوت الأخيرة التي تكشف عن عنصرية هذا الكيان، ومن ثم فإن حل هذا الصراع على أساس قرارات 242 ، و338 وغيرها من القرارات إنما خطورته تكمن في تثبيت وتقنين الفكر العنصري والقومي الديني الصهيوني، والاعتراف به، وهو اخطر ما في قبول هذه القرارات، التي أقرت في الحقيقة في لحظة تاريخية استثنائية تأسست عليها تقديرات خاطئة لقوانين الصراع، وصلت إلى حد اعتبارها أفكار ثابتة لدى كل أطراف الصراع، ولذا فهذه القرارات هي أساس سياسي خاطئ لحل القضية، وغير واقعي ولا تمس جوهر وطبيعة الصراع، باعتبار القضية قضية تحرر وطني من قبضة الإمبريالية الصهيونية ومشروعها المصطنع إسرائيل، وليس قضية دينية يهودية أو قومية للشعب اليهودي كما تتمثله هذه القرارات..

 

وما يبدو إجماع 70-73% في الداخل الإسرائيلي على السياسة اليمينية لشارون، إنما هو في الحقيقة يمثل اتجاه عام داخل إسرائيل في أن يكون هذا الحد الأدنى من التنازلات من الجانب الإسرائيلي، يجب أن يمثل أقصى الحلم الفلسطيني، بل وفرضه بالقوة إذا لم يقبله الجانب الفلسطيني عن طريق التفاوض والتسوية، وهو ما يمثل في جانب آخر من التحليل مفهوم جديد لنظرية الأمن الإسرائيلي، أساسه كما أسلفنا الذكر، ارض مهلهلة منفصلة الأجزاء غير مترابطة (كيتونات)، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، والقبول بدولة تحت مفهوم الحكم الذاتي ذات سلطات إدارية وليست سياسية فقط دون غيرها وبلا القدس .. وما الصراع الدائر الآن إلا محاولة من إسرائيل لفرض هذه التسوية السياسية بالقوة، بعد أن عجزت على تحقيقها بالطرق التفاوضية في كامب ديفيد2، وما الانتفاضة في ظل هذه الظروف إلا تعبير عن مقاومة شعبية باسلة للشعب الفلسطيني، في مواجهه سياسة فرض الإرادة السياسية لليمين الصهيونى/الامريكى، وهى في نفس الوقت تعبير عن عجز الأنظمة العربية من جانب آخر في التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة عن طريق التفاوض .      

 

 وبوضوح زائد أن الخطة التي تحاك الآن لإمرار تسوية سياسية في تلك الأوضاع على الأرض بعد سنه  من الانتفاضة، جريمة لا تغتفر بكل المقاييس وخطأ سياسي إستراتيجي قاتل للسياسة العربية لكل من يعمل في إطارها، فقرار وقف إطلاق النار الذي يسعى القادة العرب انتزاعه من المقاومة الفلسطينية، إنما يؤدى عمليا إلى وقف الانتفاضة…

 

فقد ابتدع الشعب الفلسطيني صيغة الانتفاضة الشعبية بأضلاع ثلاث، وهى صيغة أساسها هذا التمازج المتناغم بين أشكال النضال السلمي من المظاهرات، الجنازات، المؤتمرات والمسيرات السلمية من جانب، وأشكال النضال العسكري ابتداء من الحجارة إلى الهاون والقنابل الاستشهادية، بجانب الضلع السياسي المتمثل في الدعوة لإعلان الجبهة السياسية بين فصائل المقاومة، وتأسيسا على تلك القاعدة الثلاثية بأضلاعها الثلاث، النضال السلمي، النضال العسكرى، الجبهه السياسية، يكون قرار  وقف إطلاق النار هدما لأحد أضلاع هذه  القاعدة، الذي يقود بلا شك إلى تقويض البنيان النضالي للانتفاضة.

 

كما أن وقف الانتفاضة في ظل هذه النتائج على الأرض، إنما يعنى سياسيا بكل وضوح التفاوض على 12% من أراض منفصلة مهلهلة من فلسطين بدلا من 22% والعودة إلى حدود 67 التي نص عليها قرار 242، وهى نتائج يصعب عندها أن تكون نقطة ارتكاز لنضال مستقبلي ومسرحا لانتفاضة ثالثة، أن خطة شارون و73% من مستوطني إسرائيل هي تكريس الأمر الواقع الآن،  حيث قد تقسمت الأرض الفلسطينية إلى كيتونات منفصلة، وزرعت الأرض بينها مستوطنات، واقتلع الزرع وقتل الدرع ليجبر الشعب الفلسطيني على الاعتماد على إسرائيل في كسب قوت يومه بغير طريق الزراعة مما يخلخل ارتباط الشعب الفلسطيني بأرضه، وعزل عرفات وسلطته عن الشعب مما يسهل اقتلاعه أو نفيه، وعودة القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر من جديد، أو اعتبارها في احسن الأحوال قضية أقلية في داخل الكيان الإسرائيلي ..

 

من هنا تتأتى أهمية دور الانتفاضة، في تثبيت الكيان الفلسطيني المقاوم، وخلخلة وجود الكيان الصهيوني المعتدى، ومن هذا الدور تتخلق طبيعته الانتفاضة وتتحدد أشكال كفاحها وتتبلور استراتيجيتها. أنها فن المستحيل الممكن، هو هذا الرقم الصغير فى المعادلة الذى ينمو ويكبر، فهو الرقم الذى يمثل النقيض الإستراتيجي لوجود الكيان الصهيونى، فلأول مرة في تاريخ الصراع تقف إسرائيل وجها لوجه أمام نقيضها الإستراتيجي الحقيقي، أمام إرادة الشعب الفلسطيني في كتلته المادية البشرية، صاحب الحق الحقيقي الأصيل في التحرر، وهو ما يفسر كل هذا العنف الإجرامي في مواجهتها، فلأول مرة في تاريخ الصراع تصطدم الإرادة الشعبية الفلسطينية مع فلسفة وجود الكيان الإسرائيلي ذاتها، ومصالح الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، خاصة بعد أن امتلك الشعب الفلسطيني بكل طوائفه السياسية أمره بيده، وأصبح يدير معركته بنفسه بطريقته وبمنطقة، وذلك حين رفضت المنظمات الفلسطينية في الواقع العملي تقرير "ميتشل" وخطة "تنيت" وزير الاستخبارات الأمريكي، وتصريح عرفات بوقف إطلاق النار، وكلها محاولات تهدف وقف الانتفاضة الباسلة، والعودة إلى طاولة المفاوضات، تلك التى قبرتها والى الأبد أحجار أطفال الانتفاضة، وبكل وضوح الكلمة تواجهه إسرائيل الآن شبح نهايتها على يد أطفال المقاومة الفلسطينية، بعد أن عرفوا طريقهم الموجع إلى قلب إسرائيل، التي أثبتت بضع قنابل استشهادية أنها كيان عنصري هش مصطنع لا يقوى على الصمود الطويل، ويخفى ضعفه خلف دروع ومجنزرات لا تنهض أمام مقالع شباب المقاومة الفلسطينية واستعدادهم للموت في سبيل حريتهم واستقلالهم .         

 

وهنا أيضا لا يجب أن نغفل الموقف الحقيقي لشارون من تقرير "ميتشل" وخطة "تينيت"، انه الرفض المغلف إعلاميا بالقبول التكتيكي، والغرض الأساسي من هذا القبول التكتيكي هو الهدنة الوقتية، هو إعادة الانتشار العسكري بما يخدم خطته الأساسية، هو إقرار الأمر الواقع، هو محاولة لكسب الرأي العام العالمي بعد أن أصبحت عنصرية الكيان الإسرائيلي أمر ملموس لم تعد تخطئه عين الغرب الأوروبي والعالم كله، هو بث روح الفرقة بين فصائل المقاومة من جانب، وبينها وبين السلطة من جانب آخر، مما يفتح المجال على مصراعيه أمام الصراع الداخلي واعتباره الصراع الأساسي بدلا من الصراع الخارجي، هو غرس إسفين الخلاف بين القوى الرسمية العربية بين قابل ورافض للتسوية على أساس هذا التقرير وتلك الخطة، والموقف من هذه المحاولات المحمومة الأوروبية لحصار الانتفاضة تحت دعوى وقف إطلاق النار ووقف العنف.

 

إن هذا الدور الأمريكي المكذوب قد توقف نهائيا، بعد أن وصلت أحداث المنطقة والظرف الدولي من حولها إلى ذروة الحبكة الدرامية بأحداث نيويورك وواشنطون يوم 11 سبتمبر 2001، حيث هذه الأحداث صارت كافية لإرجاء دور أمريكا الكيموفلاجى كونها راعى للسلام في المنطقة إلى أجل غير مسمى، ليبدأ دورها الحقيقي دون أقنعة، فتحت دعوى محاربة الإرهاب فسياسة العصا لمن عصى هي التي ستسود، وعلى الانتفاضة أن تدرك أنها أصبحت في مرمى النيران الأمريكية المباشرة، وأصبحت الفرصة سانحة أمام الانتفاضة أن توجه ضرباتها الواحدة تلو الأخرى للعدو الصهيوني في بأس شديد، فاستمرار  كفاحها ونضالها الرافض لمنهج التسوية هو فرصتها التاريخية في التلاقي مع جماهيرها بشكل عضوي وإستراتيجي، ويعجل بدفع قوى وفصائل فلسطينية أخرى وعربية في آتون المعركة، فالانتفاضة بخط سياسي إستراتيجي واضح غير مذبذب غير متراجع عن المقاومة المستمرة، هو المخرج الوحيد والحقيقي لهذه الدراما.

 

كيف استقبلت إسرائيل أوسلو:

لقد انقضت المرحلة الانتقالية في اتفاقات أوسلو مخلفة ورائها 34 قضية لم يلتزم الجانب الإسرائيلي بتنفيذها، وقد قدمت إسرائيل لهذه المرحلة نتنياهو الليكودى الرافض لنتائج اوسلو، والذي كان همة السياسي الأول أن يعطل تنفيذ قراراتها ويفرغها من مضمونها السياسي، لتبدو فقط على هيئة إعادة لنشر القوات الإسرائيلية، محاولا في كل مرة أزمة مفاوضات بينه وبين السلطة الفلسطينية أن يغير من طبيعة هذه الاتفاقات على أرض الواقع، وقد اعتمد الجانب الفلس



#عبدالرحيم_الكريمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- شاهد ما جرى لحظة اقتحام الشرطة الأمريكية جامعة كاليفورنيا لف ...
- ساويرس يُعلق على تشبيه أحداث جامعة كاليفورنيا بـ-موقعة الجمل ...
- على غرار الجامعات الأمريكية.. الطلبة البريطانيون ينظمون احتج ...
- اليمين الأمريكي يستخدم نظرية -الاستبدال العظيم- لمهاجمة خصوم ...
- شاهد: لحظة اقتحام الشرطة لجامعة كاليفورنيا لفض اعتصام داعم ل ...
- بالأرقام.. عمّال غزة في مهب الحرب: بين قتيل وعاطل الآلاف يكا ...
- بوندسليغا.. طموح لمزيد من المجد الأوروبي وصراع شرس في القاع ...
- زعيم المعارضة الإسرائيلية لابيد يزور الإمارات ويلتقي بن زايد ...
- شاحنة آيس كريم تصدم عشرات الأطفال في قرغيزستان أثناء احتفال ...
- أوربان: البعض في قيادة الاتحاد الأوروبي يستفيد من الصراع في ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبدالرحيم الكريمى - التسوية السياسية مع إسرائيل بين الممكن .. والمستحيل